ويسبح الرعد بحمده
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمقالنا هذه المرة شتوي النكهة، يتناسب مع ما نراه هذه الأيام من مطر ورياح وبرق ورعد، هذا وإن المسلم له فيما حوله وما يمر به من أحوال وأحداث عبر وعظات، ومن ذلك تفاعله مع أحداث فصل الشتاء.
وأما عنوان المقال فجزء من آية في سورة الرعد سميت بمظهر من مظاهر الشتاء وهي: ظاهرة الرعد، أو لنقل: آية الرعد، فهي حقًا آية من آيات الله الكونية ربما لم ينتبه لها الكثيرون، والله -عز وجل- في هذه الآية قد ساق عدة آيات نراها من حولنا وهي: "البرق - السحاب - الرعد - الصواعق".
وحال المؤمن تجاهها يختلف عن حال غيره من الكافرين، بل وكثير من الغافلين من المسلمين، ففي حين نجد أهل الغفلة يقلدون الكفرة في جعل هذه الظواهر إحدى معالم فصل الشتاء ويفسرونها تفسيرًا طبيعيًّا محضًا، نجد للربانيين شأنًا آخر معها، فلا مانع من اعتبار قوانين الحر والبرد وحركة الرياح والضغط والطقس وما سوى ذلك، لكن مع ربط هذا كله بقدرة الله -عز وجل- والتعليق على مشيئته -سبحانه-؛ إذ لا يكون شيء في الكون إلا بإذنه -سبحانه-.
وإن هذه الظواهر من برق ورعد وسحاب وصواعق لها رب قدرها تسمع له وتطيع، بل وتسبح بحمده، كما قال في الآية الأخرى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (الإسراء:4 4)، فالبرق يرسله الله -عز وجل- خوفًا وطمعًا، خوفًا من أضراره وآثاره على الزرع والثمار والقرى والديار، وطمعًا في خيره ونفعه، وبقدرته وحده تتكون السحب المثقلة بالماء ويسوقها -سبحانه- حيث شاء وإلى مَن شاء من البلاد والعباد.
ثم إن البعض يشكر والبعض الآخر يكفر، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِ هِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْك َبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْك َبِ) (متفق عليه).
أرأيتم الارتباط بين الآيات الكونية والشرعية؟ أَوَضِح لنا أن توحيد الربوبية يدل ويقود إلى توحيد الألوهية؟!
ثم هناك من العباد والدواب من ينتفع بهذا المطر، وكم فيهم من الحامدين الشاكرين لله -عز وجل-، وكم فيهم ممن يستعين بنعم الله على طاعته -سبحانه-، وكم في المطر ومعه من الخيرات والبركات والرحمات، فهو آية كونية من ورائها اختبار وابتلاء شرعي للعباد مَن منهم يشكر ومن منهم يكفر بنعمة ربه -عز وجل-.
ومِن وظائف المسلم مع آية المطر بعد نسبة نزوله إلى الله وحده: أن يكثر من الدعاء عند نزوله؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (اطْلُبُوا اسْتِجابَة َ الدُّعاءِ عندَ الْتقاءِ الجُيُوشِ، وإِقامَةِ الصّلاةِ، ونُزُولِ الغَيْثِ) (أخرجه الشافعي في الأم والبيهقي في المعرفة، وصححه الألباني). وأن يقول أيضًا: (اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا) (رواه البخاري)، وأن يقول: (مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِ هِ).
وإذا كان غزيرًا وخاف ضرره قال: (اللَّهُمَّ حَوَالَيْن َا وَلاَ عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالظِّرَا بِ، وَبُطُونِ الأَوْدِيَ ةِ، وَمَنَابِت ِ الشَّجَرِ) (متفق عليه)، الآكام: الهضاب، والظراب: الروابي الصغار، وله أن يحسر ثوبه ليصيب شيئًا من جسده؛ لأنه حديث عهد بربه كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وأما الرعد: فهو ذلك الصوت الذي يُسمع من تحريك السحاب وسوقه، وهو بلا شك عندما يشتد قد يخيف البعض، لكنه مع ذلك من مخلوقات الله ويسبح بحمده، وعن ابن عمر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا سمع صوت الرعد والصواعق يقول: (اللَّهُمَّ لا تَقْتُلْنَ ا بِغَضَبِكَ وَلا تُهْلِكْنَ ا بِعَذَابِك َ، وَعَافِنَا قَبْلَ ذَلِكَ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الشيخ أحمد شاكر). ويروى عن على -رضي الله عنه- أنه كان إذا سمع صوت الرعد قال: "سبحان مَن سبحت له" وروي كذلك عن ابن عباس وطاوس والأسود بن يزيد.
وكان عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- إذا سمع الرعد ترك الحديث، وقال: "سُبْح َانَ الَّذِي يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائ ِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا لَوَعِيدٌ شَدِيدٌ لأَهْلِ الأَرْضِ" (رواه الإمام مالك والبخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني).
فهل نتفاعل مع هذه الآية ونحن أصحاب التقصير والتفريط مثل ما تفاعل هؤلاء الأفاضل أصحاب البذل والعطاء والجهاد في سبيل الله أم نستمر في غفلتنا؟
وهل نحن في مأمن أن تتحول تلك الظواهر إلى ما بعدها... كما في الآية نفسها: (وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِ قَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ) (الرعد:13)؟!
وقد أصابت بالفعل بعض الكافرين الجاحدين، كما ذكر ابن كثير -رحمه الله- أن الآية نزلت في ذلك الفاجر، فقد روي عن أنس -رضي الله عنه- أنه قال: بعث رسول الله رجلاً مرة إلى رجل من فراعنة العرب، فقال: اذهب فادعه لي قال: فذهب إليه فقال: يدعوك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال له: من رسول الله؟ وما الله؟ أمن ذهب هو أم من فضة هو أم من نحاس هو؟ قال: فرجع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره، فقال: يا رسول الله قد أخبرتك أنه أعتى من ذلك، قال لي كذا وكذا، فقال لي: ارجع إليه الثانية فذهب فقال له مثلها، فرجع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله قد أخبرتك أنه أعتى من ذلك فقال: ارجع إليه فادعه فرجع إليه الثالثة، فقال: فأعاد عليه ذلك الكلام، فبينما هو يكلمه إذ بعث الله -عز وجل- سحابة حيال رأسه، فرعدت فوقعت منها صاعقة فذهبت بقحف رأسه، فأنزل الله -عز وجل- ويرسل الصواعق.
بل يذكر بعض الدعاة أن راعي غنم جاء إلى قاض شرعي يطلب من المحكمة تعويضًا؛ لأن صاعقة نزلت من السماء فأحرقت سبعمائة رأس فقال له القاضي: لعلك لا تخرج زكاتها؟ فطأطأ الرجل رأسه ثم انصرف!
فهل نعطي هذه الآية حقها خوفًا ورهبة؟!
هل تذكرنا بالله -تعالى- وأنه القوي الذي لا غالب له، وأن صاعقة واحدة تكفي -بإذن الله- لتغيير الكثير من الموازين، وأنه لا طاقة لأحدنا على حرب الله -تعالى- ومعاندة شرعه، وأنه لا انفصال بين الأرض والسماء، وأن الأرض لا ولن تشرع للسماء؟!
وهل يعرف العباد قدرهم ويقفون عند حدهم؟ وأين تكون مجادلتهم وأصواتهم مع أصوات الرعد وأنوار البرق وإحراق الصواعق؟
ألم تر أن الآيات بعد ذكر هذه الظواهر الكونية: (وَيُسَبِّح ُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائ ِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِ قَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ) قالت: (وَهُمْ يُجَادِلُو نَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ)، في هول البرق والرعد والصواعق، وفى زحمة تسبيح الخلائق بحمد الله -تعالى- ومن خيفته وزمجرة العواصف بغضبه... في هذا الهول ترتفع تلك الأصوات البشرية بالجدل في الله -تعالى- خالق هذه الآيات... والطعن في شرع مَن هو شديد المحال!
أما تُنبهكم هذه الآيات أن الأمر لله وحده، وأن الكون خلقه ويجب أن يحكم بشرعه، وألا طاقة لكم بمعاداته وحربه؟! أما تخافون أن يهلككم الله كما أهلك من سبقكم ممن جادل وحارب؟!
وإذا كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- وهو سيد الخلق وحبيب الحق يخشى عند مجيء الرعد؛ يخشى أن تأتي بعذاب من الله فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: وَكَانَ إِذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيحًا عُرِفَ فِي وَجْهِهِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الغَيْمَ فَرِحُوا رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ المَطَرُ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عُرِفَ فِي وَجْهِكَ الكَرَاهِي َةُ، فَقَالَ: (يَا عَائِشَةُ مَا يُؤْمِنِّي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ؟ عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ ، وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ العَذَابَ، فَقَالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَ ا) (متفق عليه).
بأبي هو وأمي رسول الله ومصطفاه! قد بلغ الخوف في قلبه من ربه منتهاه! هل تأملته أخي وهو يذهب ويجيء وتُعرف الكراهة في وجهه خشية أن يكون مع الريح عذاب؟ وكم من الأمم والجيوش قد دُمرت بالريح؟
ويا لغفلتنا... ويا لقسوة قلوبنا... حين يخاف الآمن المجتهد الطائع ويأمن المقصر العاصي!
أرأيت أخي التفاعل مع الآيات الكونية... لقد جعلها آية وذكرى في حين صارت عند الكثيرين معصية وغفلة؟!
ومن هديه -صلى الله عليه وسلم- كذلك أن يدعو عند الريح: (اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا، وَخَيْرَ مَا فِيهَا، وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا، وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ) (رواه مسلم).
وأخيرًا:
إذا اشتدت الريح وعظم البرد فإن هذا يذكِّرنا بنار جهنم، فأشد ما نجد من البرد فهو من زمهرير جهنم كما في الصحيحين، فليت لنا فيما يمر بنا من أحداث تذكرة بالله -عز وجل- واليوم الآخر... ليتها تذكرنا بأن القوة لله جميعًا، وتملأ قلوبنا يقينًا بأن النصر من عند الله، وأن الله غالب على أمره وأنه لا يعلم جنود ربنا إلا هو؛ فتذكر أخي وذكِّر غيرك، وسبح بحمد ربك بكرة وأصيلاً.
والحمد لله رب العالمين.