السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن المشاهد التي يضعها القرآن الكريم أمام الإنسان مشاهد
تنطق بروح الحس والحركة, فهي مشاهد متحركة,
تتجسد أمام الناس بكل تجلياتها, فيرى الإنسان أمامه مشاهد ناطقة.
يوجد ربط قوي و محكم بين الألفاظ القرآنية وبين دلالاتها المعنوية,
وهذا الربط المحكم, يبث روح الحياة في المشاهد التي يخبر القرآن عنها.
يهدف القرآن من ذلك إحداث التأثير في روح الإنسان وعقله,
ولذا تجده كثيرا ما يشير إلى مفردات الطبيعة في الخطاب القرآني.
يقول الله تعالى :
{ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله
وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون}
[ الحشر : 21 ]
مشهد جمالي رائع يضعه القرآن الكريم أمام الإنسان,
خلال هذه الصورة الجمالية.
القرآن لا يضعنا على معان ذهنية مجردة لا روح فيها,
بل أمام صورة حقيقية, فهي تجعل القارىء والمستمع يعيش
في وجدانه مشهد ذلك الأثر الكبير الذي يحدثه القرآن الكريم
في تلك الصخور الجامدة لو تنزل عليها, وهذا يكشف
ما للقرآن الكريم من ثقل.
إنه مشهد تصويري رائع يهز النفس هزا, فالقرآن يريد أن يرسم
من خلال هذا العرض حال الذين نسوا ذكر الله تعالى,
وأعرضوا عن ذكره, و أعرضوا عن القرآن الكريم, بأنهم أكثر
قسوة من الصخر الجامد, إذ لو كان الجبل في محلهم
لاتعظ الجبل وتصدع صخره من شدة تأثره بخشية الله تعالى.
إن من لامس القرآن حسه يدرك عظمة هذه الحقيقة التي كشفها
هذا الكتاب العظيم
لقد جاء القرآن بالمفردة ( متصدعا ) إشارة إلى شدة الانفعال والتأثر,
فهذه الأجسام الصلبة قد تزلزت و تشققت من خشية الله تعالى
من كتابات الدكتور : حجي ابراهيم الزويد
يقول تعالى معظما لأمر القرآن ، ومبينا علو قدره ، وأنه ينبغي
أن تخشع له القلوب ، وتتصدع عند سماعه لما فيه
من الوعد والوعيد الأكيد :
( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله )
أي : فإن كان الجبل في غلظته وقساوته ، لو فهم هذا القرآن
فتدبر ما فيه ، لخشع وتصدع من خوف الله ، عز وجل ،
فكيف يليق بكم أيها البشر ألا تلين قلوبكم وتخشع ، وتتصدع
من خشية الله ، وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه ؟
ولهذا قال تعالى : ( وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون )
قال العوفي : عن ابن عباس في قوله :
( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا ) إلى آخرها ، يقول :
لو أني أنزلت هذا القرآن على جبل حملته إياه ، لتصدع وخشع
من ثقله ، ومن خشية الله .
فأمر الله الناس إذا نزل عليهم القرآن أن يأخذوه بالخشية
الشديدة والتخشع .
ثم قال : كذلك يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون .
وكذا قال قتادة ، وابن جرير .
وقد ثبت في الحديث المتواتر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
لما عمل له المنبر ، وقد كان يوم الخطبة يقف إلى جانب جذع
من جذوع المسجد ، فلما وضع المنبر أول ما وضع ، وجاء
النبي صلى الله عليه وسلم - ليخطب
فجاوز الجذع إلى نحو المنبر ، فعند ذلك حن الجذع وجعل يئن
كما يئن الصبي الذي يسكن ، لما كان يسمع من الذكروالوحي عنده .
ففي بعض روايات هذا الحديث قال الحسن البصري بعد إيراده :
" فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجذع " .
وهكذا هذه الآية الكريمة ،..
إذا كانت الجبال الصم لو سمعت كلام الله وفهمته ، لخشعت
وتصدعت من خشيته فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم ؟
قال الشوكاني رحمه الله:
"لما فرغ سبحانه من ذكر أهل الجنة وأهل النار، وبيّن عدم
استوائهم في شيء من الأشياء،ذكر تعظيم كتابه الكريم،
وأخبر عن جلالته، وأنه حقيق بأن تخشع له القلوب،
وترقّ له الأفئدة، فقال:
(لَوْ أَنْزَلنَا هَذَا الْقُرْآَن َ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيتهُ خَاشِعًا مُتَصدِّعا ً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)
أي:
من شأنه، وعظمته، وجودة ألفاظه، وقوّة مبانيه، وبلاغته،
واشتماله على المواعظ التي تلين لها القلوب أنه لو أنزل على جبل
من الجبال الكائنة في الأرض لرأيته مع كونه في غاية القسوة،
وشدّة الصلابة، وضخامة الجرم خاشعاً متصدعاً،
أي: متشققاً من خشية الله سبحانه، حذراً من عقابه، وخوفاً
من أن لا يؤدي ما يجب عليه من تعظيم كلام الله،
وهذا تمثيل وتخييل يقتضي علوّ شأن القرآن وقوّة تأثيره في
القلوب، ويدلّ على هذا قوله:
(وَتِلْكَ الْأَمْثَا لُ نَضْربهَا للناس لَعَلَّهُم ْ يَتَفَكَّر ُونَ)
فيما يجب عليهم التفكر فيه؛ ليتعظوا بالمواعظ، وينزجروا بالزواجر،
وفيه توبيخ وتقريع للكفار حيث لم يخشعوا للقرآن، ولا اتعظوا
بمواعظه، ولا انزجروا بزواجره،
والخاشع: الذليل المتواضع. وقيل: الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم،
أي:
لو أنزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت، ولتصدّع من نزوله
عليه، وقد أنزلناه عليك، وثبّتناك له،وقوّيناك عليه، فيكون على
هذا من باب الامتنان على النبيّ صلى الله عليه وسلم؛
لأن الله سبحانه ثبّته لما لا تثبت له الجبال الرواسي".
فتح القدير (5/294).
الأمثال في القرأن الكريم:
{لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله
وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون}
"الخشو ع": الضراعة، وأكثر ما يستعمل الخشوع فيما يوجد على
الجوارح على عكس الضراعة، فانّ أكثر ما تستعمل فيما يوجد
في القلب، وقد روي إذا ضرع القلب خشعت الجوارح.
ويوَيد ما ذكره انّه سبحانه ينسب الخشوع إلى الاَصوات و الاَبصار،
و يقول:
( وخشعت الاَصوات )، ( خاشعة أبصارهم )، ( أبصارهم خاشعة )
ولو أردنا أن نُعرّفه، فنقول:
هو عبارة عن السكينة الحاكمة على الجوارح مستشعراً بعظمة الخالق.
و "التصد ع": التفرق بعد التلاوَم.
إنّ للمفسرين في تفسير الآية رأيين:
أحدهما: انّه لو أنزلنا هذا القرآن على جبل، مع ما له من الغلظة
والقسوة وكبر الجسم وقوة المقاومة قبال النوازل، لتأثّر وتصدّع
من خشية الله ، فإذا كان هذا حال الجبل،!
فالاِنسان أحقّ بأن يخشع لله إذا تلا آياته.
فما أقسى قلوب هوَلاء الكفّار وأغلظ طباعهم حيث لا يتأثرون
بسماع القرآن واستماعه وتلاوته.
ثانيهما: انّ كلّ من له حظّ في الوجود فله حظ من العلم والشعور،
و من جملتها الجبال فلها نوع من الاِدراك والشعور،
كما قال سبحانه:
( وَإِنَّ مِنَ الحِجارَةِ لَمَا يَتَفَجَّر ُ مِنْهُ الاََنْهَا رُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَقَّقُ فَيَخْرُجُ
مِنْهُ المَاءُ وَإِنَّ مِنْها لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ )
فعلى هذا، فمعنى الآية انّ هذا القرآن لو نزل على جبل لتلاشى
و تصدّع من خشية الله ، غير انّه لم ينزل عليه.
وعلى كلا المعنيين، فليست الآية من قبيل التمثيل أي تشبيه
شيء بشىء، بل من قبيل وصف القرآن و بيان عظمته
بما يحتوى من الحقائق والاَُصول، وإنّها على الوصف التالي:
"لو أنزلناه على جبل لصار كذا و كذا"
نعم يمكن أن يعد لازم معنى الآية من قبيل التشبيه، وهو انّه
سبحانه يشبّه قلوب الكفّار والعصاة الذين لا يتأثرون بالقرآن
بالجبل والحجارة، وانّ قلوبهم كالحجارة لو لم تكن أكثر صلابة،
بشهادة انّ الحجارة يتفجر منها الاَنهار أو تهبط من خشية الله ،
فلاَجل ذلك جعلنا الآية من قبيل التمثيل وإن كان
بلحاظ المعنى الالتزامي لها.
( شبكة القرآن الكريم)